الثلاثاء، 17 يناير 2012

الـحــاجــز


وقفنا مع آلاف الجماهير جنباً إلى جنب .. بجانبي ذلك الشاب الثوري الذي احتقن وجهه وتورم من الغضب .. وخلفي الكثير من الغاضبين رجالاً ونساء شباباً وشيوخ وحتى أطفال .. تلفت حولي لأبحث عن ابنتي ذات العامين والتي تستقر فوق كتفي أبيها  .. كان أمامنا حاجز أسود .. عشرات من الحلل السوداء تمسك بالهراوات والبنادق .. شممت رائحة الرغبة تفوح من عيونهم النهمة .. تُرى من أي جانب يأتي الهجوم ؟ تسمّرت مكاني ولم أقوَ على الحراك .. مددت يدي لأتحسس يد ابنتي الممدودة للأمام .. لمحت ابتسامتها العريضة ترسلها في الهواء لإحدى الحلل السوداء .. الشاب بجانبي يعلو صوته في احتجاج .. بدأت الجماهير في التدافع .. ونحن في الصفوف الأمامية .. شعرت بدفعة قوية خلف ظهري .. سمعت صراخ إحدى الفتيات مختلطاً ببكاء طفل .. ارتفعت هراوة أمام وجهي في الهواء .. اشتعلت النظرات المتبادلة من الجانبين .. وتأججت الأنفاس الملتهبة .. ووجدتني وجهاً لوجه أمام حلة سوداء كبيرة لا يفصل بيننا سوى بضعة سنتيمترات .. شممت رائحتها عبر الليل ممزوجة بعرق الشاب الثوري الذي بجانبي .. شعرت بالخوف .. وددت التراجع .. ولكن لا مفر فلنواجه أو لنمت ..

لم أتصور أني سأواجه هذا الموقف يوماً .. كنت دائماً أسير بجانب الحائط .. لا أثير المشاكل ولا أرغب في التمرد .. طفلة مسالمة تلعب بدميتها الصغيرة .. ربما يرجع هذا لجيناتي الوراثية فأنا امرأة في مجتمع يؤله الرجال .. وإذا نظرنا لذلك بعين الاعتبار ننتهي لنتيجة واحدة .. مستحيل أن أقف هنا الآن أمام هذا الحاجز الأسود .. في تلك الليلة الشتوية السوداء .. ولكن لا مفر فلنقاوم أو لنمت ..

بدأت المعركة .. وبدأ سعيرها يتأجج .. نظرت فلم أجد الشاب الثوري الذي بجانبي .. كان قد تراجع لآخر الصفوف .. وكتلة بشرية ضخمة لم أستطع تمييز هويتها قد استقرت مكانه .. ثم بعد لحظة انتقلت فوق قدمي .. قبضات كثيرة ترتفع في الهواء .. ثم تهوي .. ثم تتلاشى .. الضجيج يعلو .. أشعر بدفعات قوية من كل جانب .. من الأمام ومن الخلف .. من اليمين ومن اليسار .. من الأرض ومن السماء .. تقلصت المسافة تحت قدميّ .. لا أجد أنفاسي .. ولا أجد دميتي الصغيرة .. ولكن لا مفر فلنحيا أو لنمت ..

أين ابنتي الجالسة فوق كتفي أبيها ..؟  بل أين كتفي أبيها ..؟ أين نحن ؟ ماذا نواجه ؟ ومَن هؤلاء الذين أمامي ؟ ومَن هؤلاء الذين خلفي ؟ كيف ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ شعرت بدوار .. رأسي يتناثر على الطريق تحت أقدام الجماهير .. قلبي يتوقف عن الخفقان .. أنفاسي تسكن .. توقفت عن البحث عن ابنتي وعن دميتي  .. ولا مفر فلنمت أو لنمت ..  

أغمضت عينيّ واستسلمت .. بدأت الجماهير تدفعني للأمام .. تحركت .. ولا أدري كيف تحركت قدماي وكأنهما يسيران بزمبرك لفه أحدهم لنهايته ثم تركه فجأة .. بدأ الجو يصفو شيئاً فشيئاً .. لم أعد أشعر بأجساد الجماهير تلتصق بي .. خف ضجيج المعركة .. شممت رائحة " الحشيش " تزكم أنفي .. فتحت عينيّ وتلفت حولي رأيت الشاب الثوري على مقربة مني يمسك بسيجارة " حشيش " ويدخنها في شراهة وتلذذ .. والجميع من حولنا يصفقون ويهللون ويرقصون .. وكنا قد اجتزنا بوابة الدخول واختفى الحاجز الأسود .. وتهادى إلى سمعي صوت محمد منير مختلطاً بصوت الشاب خالد وهما يقفان معاً على المسرح البعيد :

سو يا سو .. حبيبي حبسوه ..

بحثت عن ابنتي .. فلمحت ابتسامتها العريضة تملأ السماء .. مازالت فوق كتفيّ أبيها تصفق .. وعرفت أننا عدنا إلى الموت ..   

                                                                                                        كتبت في نوفمبر 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق