الجمعة، 20 يناير 2012

العسكري .. إللي دبح القطة ! ( إهداء إلى ست البنات )



        
         كانت كلما امتدت يداها إليه بصحن الطعام الذي تعده أمها من أجله خصيصًا كل يوم ترتجفان بشدة حتى تتأرجح البرتقالة من فوق الصحن وتسقط على الأرض متدحرجة فوق رصيف الشارع .. يبتسم لها ويهمس : تسلميلي .... تخفض عينيها في ارتباك وتعود أدراجها على عجل لتدخل المنزل المجاور .. ينحني ليمسك بالبرتقالة ويقذفها عاليًا في الهواء ليمسك بها ثانية ثم يجلس على جانب الطريق أمام الباب الجانبي للمبنى المكلف بحراسته ويخرج مطواة صغيرة من جيبه ويبدأ في تقشير البرتقالة .. كان يحب البرتقال .. وكان يحلم باليوم الذي تنتهي فيه مدة خدمته ليتمكن من عقد قرانه عليها ومن ثم يستطيع العيش معها في القاهرة ..

فالقاهرة ساحرة .. مزدحمة قليلا ومليئة بالضجيج والأحداث السريعة المتلاحقة وعلى الأخص بعد الثورة ولكنها تظل مبهجة .. وسلمى تعيش مع أمها بمفردهما بعد أن مات والدها حارس العقار .. سيدتان وحيدتان في القاهرة .. بالتأكيد هما في حاجة إلى رجل وهاهو بطلهما .. عسكري مجند في الجيش قادر على حماية الحي بأكمله ..

ـ حتتجوزا إمتى ؟

تساءل علاء الذي يقطن في الدور الأخير من العقار .. فردت سلمى على استحياء :

ـ لما يقول عمي الشيخ ..
ـ يعني قريتوا الفاتحة وللا لسة ؟
ـ لسة .. لكن هو متكلّم عليّ وعمي الشيخ وافق ..
ـ بس إنتي لسة صغيرة لازم تكملي تعليمك والعسكري ده مالوش مستقبل يعني ماكملش تعليمه وماعندوش شغل ..
ـ إحنا غلابة ومحتاجين راجل يحمينا وأنا حاعمل إيه بالعلام ؟
ـ التعليم مهم عشان مستقبلك كملي وأنا هاساعدك ..
ـ هو مش عاوزني أكمل ..
ـ لو بيحبك وخايف عليكي لازم يفكر في مصلحتك .. فكري كويس .. إوعي تتنازلي عن حقوقك ..
ـ عمي الشيخ اتفق معاه على كل حاجة .. اطمن ..

كان الحوار الأخير بينهما .. كان يشاهدها وهي تراقب العسكري عن كثب وهي تمسح سيارات سكان العقار .. كانت تتفحصه بين الحين والآخر .. تبدأ بالبيريه ثم البادلة الميري مرورًا بالسلاح منتهية بالبيادة .. فتبتسم خجلة حين تتصور أنها كل صباح ستمسح تلك البيادة لتجعلها كمرآة الست توحيدة التي تقطن في الدور الأول ..

كانت فرحة تتحرق شوقًا لتلك الليلة .. ليلة العرس .. حتى جاءت الليلة المشئومة .. لم تكن ليلة العرس بل كانت ليلة سوداء بلا قمر ولا حتى نجوم ..

وقفت خلف الجدار تراقب عسكريها من بعيد .. كان جالسًا وحده في الظلام ممسكًا ببرتقالة يقشرها بسكينه وبجانبه منديل فوق الرصيف مملوء بالطعام .. لم ينتبه في البداية حين اقتربت منه قطة صغيرة من الشارع تتشمم رائحة الطعام فراحت تنبش في المنديل في رفق حتى وجدت ما تنشده .. غير أنها ما كادت تمسك بالطعام بين فكيها حتى تلفت إليها مسرعًا وأمسك بها في غضب شديد وانهال عليها بسكينه ولم يتركها إلا وهي جثة هامدة غريقة في دمها ذبيحة وسط الطريق .. ثم التفت إلى سلمى التي كان يعرف أنها تراقبه فرمقها بعينيه برهة .. وما هي إلا لحظات رهيبة حتى أفاق سكان العقار على صراخ سلمى ..

بعد تلك الليلة بوقت قصير رآها علاء من شرفته العلوية وقد اتشحت بالسواد يمسك بها عمها الشيخ من جانب والعسكري من الجانب الآخر في طريقهم إلى القرية لعقد القران حتى يقطعوا ألسنة الجميع بعد أن استمرت سلمى عدة أسابيع طريحة الفراش ..

كتب علاء في مدونته آخر كلمات سلمى وهي تجرجر ثوبها الأسود على أسفلت الشارع : مش عاوزة العسكري .. مش عاوزة إللي دبح القطة !

                                                                              كتبت في ديسمبر 2011

الثلاثاء، 17 يناير 2012

الـحــاجــز


وقفنا مع آلاف الجماهير جنباً إلى جنب .. بجانبي ذلك الشاب الثوري الذي احتقن وجهه وتورم من الغضب .. وخلفي الكثير من الغاضبين رجالاً ونساء شباباً وشيوخ وحتى أطفال .. تلفت حولي لأبحث عن ابنتي ذات العامين والتي تستقر فوق كتفي أبيها  .. كان أمامنا حاجز أسود .. عشرات من الحلل السوداء تمسك بالهراوات والبنادق .. شممت رائحة الرغبة تفوح من عيونهم النهمة .. تُرى من أي جانب يأتي الهجوم ؟ تسمّرت مكاني ولم أقوَ على الحراك .. مددت يدي لأتحسس يد ابنتي الممدودة للأمام .. لمحت ابتسامتها العريضة ترسلها في الهواء لإحدى الحلل السوداء .. الشاب بجانبي يعلو صوته في احتجاج .. بدأت الجماهير في التدافع .. ونحن في الصفوف الأمامية .. شعرت بدفعة قوية خلف ظهري .. سمعت صراخ إحدى الفتيات مختلطاً ببكاء طفل .. ارتفعت هراوة أمام وجهي في الهواء .. اشتعلت النظرات المتبادلة من الجانبين .. وتأججت الأنفاس الملتهبة .. ووجدتني وجهاً لوجه أمام حلة سوداء كبيرة لا يفصل بيننا سوى بضعة سنتيمترات .. شممت رائحتها عبر الليل ممزوجة بعرق الشاب الثوري الذي بجانبي .. شعرت بالخوف .. وددت التراجع .. ولكن لا مفر فلنواجه أو لنمت ..

لم أتصور أني سأواجه هذا الموقف يوماً .. كنت دائماً أسير بجانب الحائط .. لا أثير المشاكل ولا أرغب في التمرد .. طفلة مسالمة تلعب بدميتها الصغيرة .. ربما يرجع هذا لجيناتي الوراثية فأنا امرأة في مجتمع يؤله الرجال .. وإذا نظرنا لذلك بعين الاعتبار ننتهي لنتيجة واحدة .. مستحيل أن أقف هنا الآن أمام هذا الحاجز الأسود .. في تلك الليلة الشتوية السوداء .. ولكن لا مفر فلنقاوم أو لنمت ..

بدأت المعركة .. وبدأ سعيرها يتأجج .. نظرت فلم أجد الشاب الثوري الذي بجانبي .. كان قد تراجع لآخر الصفوف .. وكتلة بشرية ضخمة لم أستطع تمييز هويتها قد استقرت مكانه .. ثم بعد لحظة انتقلت فوق قدمي .. قبضات كثيرة ترتفع في الهواء .. ثم تهوي .. ثم تتلاشى .. الضجيج يعلو .. أشعر بدفعات قوية من كل جانب .. من الأمام ومن الخلف .. من اليمين ومن اليسار .. من الأرض ومن السماء .. تقلصت المسافة تحت قدميّ .. لا أجد أنفاسي .. ولا أجد دميتي الصغيرة .. ولكن لا مفر فلنحيا أو لنمت ..

أين ابنتي الجالسة فوق كتفي أبيها ..؟  بل أين كتفي أبيها ..؟ أين نحن ؟ ماذا نواجه ؟ ومَن هؤلاء الذين أمامي ؟ ومَن هؤلاء الذين خلفي ؟ كيف ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ شعرت بدوار .. رأسي يتناثر على الطريق تحت أقدام الجماهير .. قلبي يتوقف عن الخفقان .. أنفاسي تسكن .. توقفت عن البحث عن ابنتي وعن دميتي  .. ولا مفر فلنمت أو لنمت ..  

أغمضت عينيّ واستسلمت .. بدأت الجماهير تدفعني للأمام .. تحركت .. ولا أدري كيف تحركت قدماي وكأنهما يسيران بزمبرك لفه أحدهم لنهايته ثم تركه فجأة .. بدأ الجو يصفو شيئاً فشيئاً .. لم أعد أشعر بأجساد الجماهير تلتصق بي .. خف ضجيج المعركة .. شممت رائحة " الحشيش " تزكم أنفي .. فتحت عينيّ وتلفت حولي رأيت الشاب الثوري على مقربة مني يمسك بسيجارة " حشيش " ويدخنها في شراهة وتلذذ .. والجميع من حولنا يصفقون ويهللون ويرقصون .. وكنا قد اجتزنا بوابة الدخول واختفى الحاجز الأسود .. وتهادى إلى سمعي صوت محمد منير مختلطاً بصوت الشاب خالد وهما يقفان معاً على المسرح البعيد :

سو يا سو .. حبيبي حبسوه ..

بحثت عن ابنتي .. فلمحت ابتسامتها العريضة تملأ السماء .. مازالت فوق كتفيّ أبيها تصفق .. وعرفت أننا عدنا إلى الموت ..   

                                                                                                        كتبت في نوفمبر 2009

الاثنين، 16 يناير 2012

خلف العربة


كنت في الحادية عشر ذات يوم بعيد .. وكنا نلهو في طريق العودة من المدرسة  .. نجتمع سوياً .. " نادية " " حسام " " هبة " وآخرين لا أذكر أسماءهم الآن .. نترك حقائبنا بجانب الطريق وننطلق .. نلعب الاستغماية .. نتسابق .. نتعارك .. تتحول أحذيتنا البيضاء من ماركة " باتا " إلى اللون الترابي .. كما تتحول وجوهنا إلى اللون الوردي الممزوج بعرق لذيذ حلو المذاق .. تنفك أزرار المرايل التحتية من الجري وربما تنقطع .. يغلبنا الحماس .. لا نريد العودة لمنازلنا أبداً .. ليت الشارع يصبح منزلنا .. أبي يعبر الطريق هناك .. أجري .. أختبئ خلف العربات .. هل رآني ؟ لا أظن .. لا يتصور أني مثل باقي الأطفال أستطيع اللعب واللهو .. هل مرّ ؟ لا أحد يسمعني .. أنتظر قليلاً حتى أتأكد من أنه مرّ بسلام ودون أن يراني .. توقفت عن التنفس .. توقفت عن الحياة .. مرت لحظات .. بل ساعات .. بدأت ركبتاي تؤلماني من وضع القرفصاء فوق الأرض .. إلى متى يجب أن أختبئ ؟ أين الرفاق ؟ فليخبرني أحد .. تنبهت فجأة على صوت حسام .. " مستخبية ليه ؟ إحنا ما بنلعبش أستغماية .. إحنا بنلعب كهربا .. ياللا قومي .. شد الكُبس .." وصاح بأعلى صوته في الجملة الأخيرة ..

وكأن مس شيطاني قد مسني عندما لمس كتفي .. انتفض جسدي كله .. ماذا لو رآنا أبي خلف العربة .. أكان ينقصني ذلك الأبله الصغير .. ترددت قليلاً قبل أن أهم بالوقوف .. أحسست بدوار شديد .. تلفت حولي في جميع الأنحاء لم أرَ أبي .. الحمد لله .. لم يرانا خلف العربة .. اتكأت على العربة ونهضت .. غير أني ما أن استقريت على قدمي حتى هتف بي حسام : إنتي متعورة .. إيه الدم ده ؟ وأشار إلى مؤخرتي .. التفت إليها لأرى مريلتي الزرقاء قد تحول لونها إلى اللون النبيتي الغامق .. شعرت بالخوف .. بل بالخجل .. لست أذكر بالتحديد .. ما أذكره أني فررت كفأر صغير تم افتضاح أمره فانهالت عليه الشباشب من كل جانب حتى انطلق يجري بلا هوادة ..
في اليوم التالي حاولت إقناع حسام بأن ما حدث بالأمس كان نتيجة مسمار جلست عليه بالخطأ فجرحني ! .. أعتقد أنه لم يقتنع بذلك التبرير .. ولكنه لم يتساءل عن سبب تواجد المسمار في ذلك المكان .. ولا عن ظروف وملابسات الحادث واكتفى بالصمت ولم يعلّق .. وإنما دعاني للعب في نهاية اليوم ونحن في طريق العودة .. لم أجب وأكتفيت بالصمت أيضاً ..

ولم نلعب ثانية في الطريق .. ثم افترقت بنا الطرق .. وأصبح لكل منا طريق ..

الأربعاء، 11 يناير 2012

المرجيحة




اعتدنا منذ فجر التاريخ على رؤية عم سمير على تلك الهيئة .. أكرت الشعر يميل إلى اللون الأسمر النوبي .. قصير القامة إلا أنه كان ضخمًا جدًا بحيث يزلزل منطقة المراجيح حين يجري وراءنا متكئاً على قدم واحدة .. كان يعوقه العرج الذي بقدمه عن السير بشكل طبيعي .. يفزعنا وهو يصرخ في وجوهنا مكررًا مثل جهاز الريكوردر " تذاكر .. تذاكر .. اقطعوا التذاكر " .. فنجري من حوله ونحاول التسلل دون أن يرانا لندخل المراجيح من غير أن ندفع ثمن التذكرة التي كانت تبلغ في ذلك الوقت .. عشرة "صاغ" .. وغالباً ما كان يمسك بنا عم سمير فنتقافز محاولين الإفلات من يديه الحجريتين .. وإذا حدث وأمسك بأحدنا كان ينال منه " قرصة " أذن معتبرة فلا يعاود الكرّة أبداً في ذلك اليوم .. كنا نشعر بنشوة الانتصار حين نضحك عليه ونتمكن من الدخول رغم أنفه .. ونعلنها منطقة محررة .. "المراجيح لنا" .. وهو دائم النسيان لا يتذكر وجوهنا .. وفي نهاية كل ليلة كان يتركنا ندخل لنتأرجح قليلاً " منحة " دون تذاكر .. فنصعد المرجيحة القديمة العالية .. كانت كلمة السر .. " طيَّرنا لفوق يا عم سمير " .. فيمسك بمقعد أحدنا ويدور بقوة هائلة خاصة بتلك اللحظة وتدور المقاعد الأخرى كذلك .. فيطير ونطير معه .. كان كل شئ يطير .. أحلامنا الصغيرة .. فستاني الحريري الواسع .. شبشب رفيق لنا لم أعد أذكر اسمه .. وشعر جيهان ..

جيهان ابنة " عم علي " الذي يعمل جرسوناً في الكافيتريا الملاصقة للمراجيح .. كنت أراه أحياناً يعطي جيهان القليل من الأطعمة .. كنصف قطعة جاتوه .. أو زجاجة مياه غازية غير مكتملة .. أو طبق مكرونة صغير .. ولذا كنا نحسد جيهان .. وكانت فخورة بذلك كما كانت فخورة بشعرها الأسود الناعم الذي يصل إلى النصف الآخر من العالم .. فتضمه على هيئة ذيل حصان .. وأحيانًا أطلب منها أن تحله وتتركه قليلاً في الهواء كي  ألهو به .. أنا أحب شعر جيهان ..

في يوم من الأيام الصيفية الحارة .. وجدت جيهان جالسة في صمت غير معتاد على الدرج المؤدي للكافيتريا تنظر إليّ من خلال قضبان السور الحديدي .. ووضعت فوق رأسها إيشارب قطني ثقيل لونه بيج ..  تلفه مثل العِمّة .. سألتها عن الإيشارب .. أجابت ببراءة ممزوجة بأسى غير طفولي " ماما قالت كده أحسن " .. لم تقنعني الإجابة ولم أفهم شيئا .. إلا أنني جذبتها من يديها ودخلنا المراجيح .. دفعت ثمن تذكرتي فقط .. فجيهان لا تدفع ثمن التذاكر أبداً لعم سمير .. جيهان السوبر مان الذي يمتلك كل شئ في ذلك العالم .. ولكن .. لماذا ذلك الإيشارب ؟!

" طيَّرنا لفوق يا عم سمير " .. انطلق عم سمير على أثر الكلمة السحرية وأصواتنا تختلط مع صوت أزيز المرجيحة القديمة " أنا .. لأ .. أنا أنا .. أنا والنبي يا عم سمير " وعلى ما يبدو أنه رأى مسحة الحزن على وجه جيهان فأراد أن يسعدها .. أمسك بمقعدها وانطلق به ولف ودار ثم ضربه بقوة في الحديد .. أغمضت عينيّ من شدة الهواء ثم فتحتهما بسرعة لأرى شعر جيهان وهو يطير في الهواء كالعادة غير عابئ بأحد .. غير أنني اصطدمت بالإيشارب .. وجيهان تطير في الهواء ضاحكة تعلو وتهبط .. لحظات قليلة .. ليتها تظل ضاحكة .. وليتها تنزع ذلك الإيشارب الغبي .. طرنا في الهواء وطارت الأحلام .. وطار معها إيشارب جيهان .. ليترك تحته أرض فضاء عطشى لم تعرف يومًا معنى الأخضر .. وفجأة اختفت ضحكة جيهان وتعالت صيحاتنا .. ولم أقوَ على التنفس .. أين شعر جيهان ؟ ماذا فعلوا به ؟


منذ ذلك اليوم لم أرَ جيهان ثانية .. اختفت من الوجود .. وكأنها كانت حلمًا في مخيلتي أنا فقط .. وبعد حين اختفى عم سمير أيضًا .. لم يعد أحد يطيّرنا في الهواء .. وتوقفت المرجيحة عن الدوران .. ثم اختفى الرفاق واحد تلو الآخر .. ثم اختفيتُ ..