الأحد، 9 فبراير 2014

خلاويص .. لسة !



لم يتسع خيال الطفل الذي لم يتعدَ السبع سنوات ليصدق أن جبلا كبيرًا كالمقطم كان في القديم قد تقطم وتفتت إلى قطع صغيرة مثلما يقول "سمعان" الطفل الآخر ذو التسع سنوات والذي أصبح صديقًا له منذ دقائق فقط ..

ـ باقولك الجبل نزل فتافيت فتافيت .. دي حاجة معروفة .. أبويا شافه بعينيه ..
ـ وباباك كان فوق وللا تحت ؟
ـ مش عارف .. يمكن كان فوق ..
ـ فوق الجبل وهو نازل فتافيت وماحصلوش حاجة ؟
ـ يبقى لازم كان تحت ..
ـ كان تحت والجبل وقع فوق دماغه ؟

        تنفس سمعان في غضب من أسئلة إسماعيل المندهشة والتي تشوبها رائحة عدم التصديق لما يقول ثم صاح به في استنكار :

ـ أيوة أصل أنا أبويا جامد قوي .. ده عليه ضربة كف توقع مية وألف .. ده بيشيل شوال الزبالة الكبير ده كله على ضهره لوحده !

        وأشار "سمعان" إلى شوال ضخم من القمامة على جانب الطريق الطويل المؤدي إلى دير الأنبا سمعان الخراز بالمقطم حيث يقطن مع أبيه وأمه وأخوته الستة في بيت صغير من حجرتين متهالكتين تحملان رائحة الزمن ممزوجة برائحة القمامة وبقايا الخنازير الهاربة التي أفلتت بجلدها من المذبحة الشهيرة ..

ـ مش مصدقني طب والعدرا مريم الجبل اتقطم ونزل فتافيت فتافيت ..
ـ هي مين العدرا دي ؟!
ـ ماما العدرا ..
ـ إنت مامتك اسمها مريم ؟
ـ لأ .. أمي اسمها إيفون .. ماما العدرا دي أم الرب ..

        لم يزل إسماعيل في دهشة من أمر ذلك السمعان الذي يقول كلامًا غير مفهوم يشبه الأحاجي .. ولكن لا بأس فهو لطيف على كل حال ويختلف عن أصدقائه في المدرسة الانجليزية التي يرتادها الآن .. ويستطيع إسماعيل اللعب مع سمعان والأطفال هنا بحرية تامة بعيدًا عن الرقباء.. فأمه مشغولة بأخته المريضة التي أصابها شلل مفاجئ بعد رفض أبيهم زواجها من شاب ترتبط معه بعلاقة عاطفية ..
        احتارت الأم مع ابنتها بين الأطباء الذين أكدوا عدم وجود سبب عضوي وأنه بسبب نفسي .. وبين المشايخ الذين اكتفوا بقراءة القرآن .. وبين أصحاب الكرامات الذين تعدوا تلك المرحلة لما بعدها من مراحل طرد الجن والعفاريت بجميع أنواعها السفلية منها والعلوية .. بينما ظل الأب على موقفه الرافض لذلك الشاب ..
        سمعت الحاجة أم إسماعيل من إحدى جاراتها عن الأنبا سمعان وكراماته المشهورة في شفاء المرضى المقعدين منذ سنوات طويلة ..

ـ يا حاجة ده أبونا راجل مبروك وإيده فيها الشفا .. وياما ناس راحت عنده على كرسي ورجعوا على رجليهم .. !

        لم تكذّب الخبر " الحاجة أم إسماعيل " وفورًا شدّت الرحال للدير مصطحبة معها ابنتها المريضة بالإضافة لإسماعيل الذي كان سعيدًا وهويلعب خارج الدير مع سمعان وباقي الأطفال ..

ـ يعني مش مصدق إن الجبل نزل فتافيت فتافيت ؟ وهو حد يصدق إن واحد يدبح ابنه ؟ وكمان الواد يتقلب خروف ؟!
ـ أيوة .. إحنا أخدنا كده في المدرسة .. وكمان أنا رحت مع بابا في العيد وشفته وهو بيدبح الخروف ..
ـ يعني أبوك لو قالك تعال أدبحك هتوافق ؟

        صمت إسماعيل ولم ينطق بحرف .. وحين لمح سمعان علامات الحيرة على وجه الصغير صاح به صيحة النصر :

ـ عشان تبقى تصدقني لما أقولك الجبل نزل فتافيت فتافيت ..
ـ طب اسمع .. لو صدقت إن الجبل نزل فتافيت .. تصدق إن سيدنا إبراهيم كان هيدبح ابنه إسماعيل وربنا فداه بخروف ؟

        فكر سمعان قليلا قبل أن يعلنها صريحة مدوية :

ـ موافق .. ياللا بينا بقى نلعب استغماية مع العيال ..

وانطلق جميع الأطفال في مختلف الاتجاهات تختلط أصواتهم وتتشابك :

ـ خلاويص ؟
ـ لسة ..
ـ خلاويص ؟
ـ لسة .. 

الأحد، 2 فبراير 2014

العيش



جلست على مقعد صغير من الخشب المتآكل بفعل القدم وبفعل ما يحمله من عشرات من الكيلوجرامات بالإضافة إلى عشرات من السنين وآلاف من الأيام المفرحة حينًا والمبكية في أغلب الأحيان .. وقد وضعت " نضارة شمس " سوداء على عينيها تحجب نصف وجهها فيتعذر على من يراه أن يلاحظ بصمات الزمن اللعين الذي حوله إلى قطعة من ورق الكريشة الذي يزينون به باقات الورد قبل إرسالها .. تلك النضارة التي تثير دهشة وفضول من لا يعرف " الست حياة " أما من يعرفها جيدا من أهل المنطقة فلا يملك غير أن يلقي السلام عليها في مودة تستطيع أن تتبينها دون مشقة ..

وضعت الست حياة " طاولة العيش " أمامها على جانب الطريق وأخذت ترص أكوامًا من الأرغفة البلدي شبه الساخنة حسب أحجامها وأنواعها .. العيش الطري في أكياس مغلقة في جانب والعيش الناشف معرضًا للهواء في جانب آخر .. وأمامها كوم كبير من الأكياس الشفافة الفارغة تأهبًا لاستقبال الزبائن .. وبين الحين والآخر عندما تمر بجانب الست حياة تستطيع أن تميز عبارة : " عاوز بجنيه عيش " .. فتنحني على الطاولة أمامها دون مجهود فقد كان ظهرها يعلمك الانحناء خجلا ..

حين ارتفعت الشمس في سماء يوليو الحارقة بحثت عن طرف طرحتها السوداء التي ضاعت وسط جلبابها الأسود الفضفاض والذي تزينه ذرات " الردّة " فاستحال إلى اللون الترابي .. أمسكت بطرف طرحتها أخيرًا وأخذت تجفف قطرات العرق المتسللة فوق جبينها ووجنتيها فأنهكها المرور بين التجاعيد المتشابكة حول فمها في سيريالية يعجز عنها سلفادور دالي شخصيا !

لم يشعر أحد من المارة بصوت الدرّاجة البخارية وقد انطلقت فجأة بجانب طاولة العيش كمن مسه عفريت من الجن فطارت في الهواء مثل أفلام "جاكي شان " ثم حطت على طرف الطاولة لتقذف بها بعيدًا مبعثرة كل أرغفة العيش على قارعة الطريق تحت أقدام المارة الذين يهرولون للحاق بأعمالهم ثم اندفع سائق الدراجة في طريقه غير عابئ بلعنات الست "حياة" المحملة بوجع العمر الحزين ومرارة الانحناءات فوق الطاولة ..


وللمرة التي لا تذكر كم بعد الألف تنحني لتلملم شقاءها المبعثر على الطريق وفوق رصيف الشارع صديق وحدتها ونديم شكواها .. ثم تنهار ثانية فوق نفس المقعد المتآكل الشاهد الأول على الواقعة .. حين لمحت قدمين صغيرتين عاريتين تمامًا ومن فوقهما بنطال بيجاما بالية يكاد يواري الركبتين لولا العظام البارزة من خلف ثقوب البنطال لتعلن عن ارتعاشها بفعل الجوع والدوران في شوارع المدينة .. ثم من فوقهما يدان بلون أسفلت الطريق يمسكان برغيف عيش كان قد تمرد على أرض الشارع الصلبة فتطاير ليستقر فوق أقدام الصغير الذي تعلقت عيناه به كأم ترى وليدها لأول مرة لحظة الميلاد .. تقدم الصبي من الست حياة وبكلمات بليغة تفوهت بها عيناه دون أن تتحرك شفاهه قيد أنملة رفع يديه بالرغيف وبعينيه معه فأخذته منه دون أن يرى عينيها المتواريتين خلف النضارة السوداء .. ومسحت الرغيف في جلبابها ثم أعادته إلى الصبي ومعه ابتسامة عريضة تناقلتها الشفاه الأربعة عبر الهواء المحمل برائحة العيش .