الأحد، 2 فبراير 2014

العيش



جلست على مقعد صغير من الخشب المتآكل بفعل القدم وبفعل ما يحمله من عشرات من الكيلوجرامات بالإضافة إلى عشرات من السنين وآلاف من الأيام المفرحة حينًا والمبكية في أغلب الأحيان .. وقد وضعت " نضارة شمس " سوداء على عينيها تحجب نصف وجهها فيتعذر على من يراه أن يلاحظ بصمات الزمن اللعين الذي حوله إلى قطعة من ورق الكريشة الذي يزينون به باقات الورد قبل إرسالها .. تلك النضارة التي تثير دهشة وفضول من لا يعرف " الست حياة " أما من يعرفها جيدا من أهل المنطقة فلا يملك غير أن يلقي السلام عليها في مودة تستطيع أن تتبينها دون مشقة ..

وضعت الست حياة " طاولة العيش " أمامها على جانب الطريق وأخذت ترص أكوامًا من الأرغفة البلدي شبه الساخنة حسب أحجامها وأنواعها .. العيش الطري في أكياس مغلقة في جانب والعيش الناشف معرضًا للهواء في جانب آخر .. وأمامها كوم كبير من الأكياس الشفافة الفارغة تأهبًا لاستقبال الزبائن .. وبين الحين والآخر عندما تمر بجانب الست حياة تستطيع أن تميز عبارة : " عاوز بجنيه عيش " .. فتنحني على الطاولة أمامها دون مجهود فقد كان ظهرها يعلمك الانحناء خجلا ..

حين ارتفعت الشمس في سماء يوليو الحارقة بحثت عن طرف طرحتها السوداء التي ضاعت وسط جلبابها الأسود الفضفاض والذي تزينه ذرات " الردّة " فاستحال إلى اللون الترابي .. أمسكت بطرف طرحتها أخيرًا وأخذت تجفف قطرات العرق المتسللة فوق جبينها ووجنتيها فأنهكها المرور بين التجاعيد المتشابكة حول فمها في سيريالية يعجز عنها سلفادور دالي شخصيا !

لم يشعر أحد من المارة بصوت الدرّاجة البخارية وقد انطلقت فجأة بجانب طاولة العيش كمن مسه عفريت من الجن فطارت في الهواء مثل أفلام "جاكي شان " ثم حطت على طرف الطاولة لتقذف بها بعيدًا مبعثرة كل أرغفة العيش على قارعة الطريق تحت أقدام المارة الذين يهرولون للحاق بأعمالهم ثم اندفع سائق الدراجة في طريقه غير عابئ بلعنات الست "حياة" المحملة بوجع العمر الحزين ومرارة الانحناءات فوق الطاولة ..


وللمرة التي لا تذكر كم بعد الألف تنحني لتلملم شقاءها المبعثر على الطريق وفوق رصيف الشارع صديق وحدتها ونديم شكواها .. ثم تنهار ثانية فوق نفس المقعد المتآكل الشاهد الأول على الواقعة .. حين لمحت قدمين صغيرتين عاريتين تمامًا ومن فوقهما بنطال بيجاما بالية يكاد يواري الركبتين لولا العظام البارزة من خلف ثقوب البنطال لتعلن عن ارتعاشها بفعل الجوع والدوران في شوارع المدينة .. ثم من فوقهما يدان بلون أسفلت الطريق يمسكان برغيف عيش كان قد تمرد على أرض الشارع الصلبة فتطاير ليستقر فوق أقدام الصغير الذي تعلقت عيناه به كأم ترى وليدها لأول مرة لحظة الميلاد .. تقدم الصبي من الست حياة وبكلمات بليغة تفوهت بها عيناه دون أن تتحرك شفاهه قيد أنملة رفع يديه بالرغيف وبعينيه معه فأخذته منه دون أن يرى عينيها المتواريتين خلف النضارة السوداء .. ومسحت الرغيف في جلبابها ثم أعادته إلى الصبي ومعه ابتسامة عريضة تناقلتها الشفاه الأربعة عبر الهواء المحمل برائحة العيش . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق