الجمعة، 13 ديسمبر 2013

تـلك الرائـحـة





اكتشفت وأنا في السابعة من عمري أن للأحاسيس روائح .. بعضها كرائحة المسك تكفيك منها قطرة واحدة وبعضها يعلن الحصار حتى تعلن الاستسلام .. بعضها يهاجمك وبعضها يحتاج لأن تبحث عنه لتهاجمه أنت ..
للاشتهاء رائحة .. للارتواء رائحة .. للشبع رائحة .. وللجوع رائحة ..

       ورائحة الجوع تشبه أحيانا رائحة نهش النيران لكيزان الذرة فوق الفحم في ليلة شتوية باردة .. وتشبه أحيانا أخرى دبيب الـ " ماشاء الله " فوق صدر أمينة النصف عاري قبل أن تبيعها لتشتري بثمنها قماش التنجيد لابنتها صاحبة الأعوام الستة عشر ..
ـ هي هند هتدخل إمتى ؟
ـ أول يوم العيد .. كل سنة وإنتي طيبة .. عقبال ما تفرحي بالعروسة الصغيرة ..

قالتها أمينة وهي تبتسم في وجهي قبل أن نصعد السلم أنا وأمي وأنا أحمل كيسًا كبيرًا مملوءًا بالبطاطس بينما تحمل أمي حقيبتي اللحم والفاكهة والتموين ..

ـ ماما .. أنا جعت قوي .. هو المغرب إمتى بقى ؟
ـ لسة .. إحنا الضهر .. لو مش قادرة تكملي صيام كفاية عليكي كده وافطري دلوقتي ..
ـ لأ أنا دلوقتي كبيرة وحاصوم زيكم ..

كانت تجربتي الأولى في الصيام .. لا أذكرها كثيرًا غير أني أذكر ذلك اليوم من رمضان حيث عرفت الجوع لأول مرة ولا أتذكر مَن منا كان يأكل الآخر ؟

لم أشعر إلا بتلك الرائحة تأخذني وتقتادني إلى المنضدة الكبيرة بجوار باب الشقة فأمشي على أطراف أصابعي العشرة وأتسلل في خلسة إلى المنطقة المحرمة لأدخل في حضرة الطعام حيث رائحة الجوع تزكم أنفي رغم أنفي .. كشفت الأواني لأجد مجموعات من اللحم المحمر ترقد بزهو فاجر بجانب قطع البطاطس العائمة في الدمعة عارية تمامًا من أي استحياء بينما ظل جبل الأرز العالي محافظًا على ثباته ووقاره في ظل ذلك الإغراء غير المحتمل ليشهد على تلك الخلوة التي لامست قطراتها الحمراء القانية بعض حباته المتمردة حيث ذهبت لتسترق النظر في اشتهاء محموم ..

اقتربت من أحد الأواني حتى لامس أنفي قطعة لحم كبيرة تراجعت ومسحت طرفه  في عجالة واستكملت الاستنشاق وبدأت أعصابي تتخدر ..
ـ إنتي يا بنت .. بتعملي إيه عندك ؟

لم أنس يومًا تلك اللحظة الهائلة حيث أمسكت بي أمي وأنا أشهد على تلك الخلوة التي أحسبها والله شرعية خالية تمامًا من أي تدنيس بمباركة جبل الأرز العالي ..

ـ إوعي تمدي إيدك على الأكل ده .. إنتي سامعة ؟ ده مش بتاعنا ..

" مش بتاعنا !!!! " اخترقت الحروف والنقاط مسامعي معلنة الحرب بينما فتحت فمي معلنة الغباء .. كيف ذلك وتلك الرائحة المدهشة أليست لنا ؟

ـ أمال الأكل ده بتاع مين ؟
ـ ده بتاع أمينة مرات البواب وولادها هنبعتهولها زي كل رمضان .. إنتي دلوقتي كبرتي ياللا شيلي طبق طبق وانزلي وديه واطلعي خدي اللي بعده ..


حملت الأواني على ثلاث مراحل متتالية وأنا أسب وألعن كل أدوار السلم السبعة كما عمري .. وسلمت الأواني يدًا بيد وأنا أستشيط غضبًا لهند بنت أمينة التي أخذتها من يدي في لهفة لم أستطع تمييز رائحتها في حينها فقد كانت رائحة اللحم والبطاطس تطغى على حواسي جميعًا .. غير أني في نهاية المساء بعد أن دق مدفع الإفطار وشربنا وأكلنا وضحكت بطوننا .. فتحت الباب بعد جرس متقطع راقص مثل فوازير نيللي وعمو فؤاد لأجد هند ومعها الأواني الفارغة مغسولة ونظيفة تمامًا فشممت تلك الرائحة لأول مرة .. رائحة لم أنسها يومًا في حياتي ..