الأربعاء، 11 يناير 2012

المرجيحة




اعتدنا منذ فجر التاريخ على رؤية عم سمير على تلك الهيئة .. أكرت الشعر يميل إلى اللون الأسمر النوبي .. قصير القامة إلا أنه كان ضخمًا جدًا بحيث يزلزل منطقة المراجيح حين يجري وراءنا متكئاً على قدم واحدة .. كان يعوقه العرج الذي بقدمه عن السير بشكل طبيعي .. يفزعنا وهو يصرخ في وجوهنا مكررًا مثل جهاز الريكوردر " تذاكر .. تذاكر .. اقطعوا التذاكر " .. فنجري من حوله ونحاول التسلل دون أن يرانا لندخل المراجيح من غير أن ندفع ثمن التذكرة التي كانت تبلغ في ذلك الوقت .. عشرة "صاغ" .. وغالباً ما كان يمسك بنا عم سمير فنتقافز محاولين الإفلات من يديه الحجريتين .. وإذا حدث وأمسك بأحدنا كان ينال منه " قرصة " أذن معتبرة فلا يعاود الكرّة أبداً في ذلك اليوم .. كنا نشعر بنشوة الانتصار حين نضحك عليه ونتمكن من الدخول رغم أنفه .. ونعلنها منطقة محررة .. "المراجيح لنا" .. وهو دائم النسيان لا يتذكر وجوهنا .. وفي نهاية كل ليلة كان يتركنا ندخل لنتأرجح قليلاً " منحة " دون تذاكر .. فنصعد المرجيحة القديمة العالية .. كانت كلمة السر .. " طيَّرنا لفوق يا عم سمير " .. فيمسك بمقعد أحدنا ويدور بقوة هائلة خاصة بتلك اللحظة وتدور المقاعد الأخرى كذلك .. فيطير ونطير معه .. كان كل شئ يطير .. أحلامنا الصغيرة .. فستاني الحريري الواسع .. شبشب رفيق لنا لم أعد أذكر اسمه .. وشعر جيهان ..

جيهان ابنة " عم علي " الذي يعمل جرسوناً في الكافيتريا الملاصقة للمراجيح .. كنت أراه أحياناً يعطي جيهان القليل من الأطعمة .. كنصف قطعة جاتوه .. أو زجاجة مياه غازية غير مكتملة .. أو طبق مكرونة صغير .. ولذا كنا نحسد جيهان .. وكانت فخورة بذلك كما كانت فخورة بشعرها الأسود الناعم الذي يصل إلى النصف الآخر من العالم .. فتضمه على هيئة ذيل حصان .. وأحيانًا أطلب منها أن تحله وتتركه قليلاً في الهواء كي  ألهو به .. أنا أحب شعر جيهان ..

في يوم من الأيام الصيفية الحارة .. وجدت جيهان جالسة في صمت غير معتاد على الدرج المؤدي للكافيتريا تنظر إليّ من خلال قضبان السور الحديدي .. ووضعت فوق رأسها إيشارب قطني ثقيل لونه بيج ..  تلفه مثل العِمّة .. سألتها عن الإيشارب .. أجابت ببراءة ممزوجة بأسى غير طفولي " ماما قالت كده أحسن " .. لم تقنعني الإجابة ولم أفهم شيئا .. إلا أنني جذبتها من يديها ودخلنا المراجيح .. دفعت ثمن تذكرتي فقط .. فجيهان لا تدفع ثمن التذاكر أبداً لعم سمير .. جيهان السوبر مان الذي يمتلك كل شئ في ذلك العالم .. ولكن .. لماذا ذلك الإيشارب ؟!

" طيَّرنا لفوق يا عم سمير " .. انطلق عم سمير على أثر الكلمة السحرية وأصواتنا تختلط مع صوت أزيز المرجيحة القديمة " أنا .. لأ .. أنا أنا .. أنا والنبي يا عم سمير " وعلى ما يبدو أنه رأى مسحة الحزن على وجه جيهان فأراد أن يسعدها .. أمسك بمقعدها وانطلق به ولف ودار ثم ضربه بقوة في الحديد .. أغمضت عينيّ من شدة الهواء ثم فتحتهما بسرعة لأرى شعر جيهان وهو يطير في الهواء كالعادة غير عابئ بأحد .. غير أنني اصطدمت بالإيشارب .. وجيهان تطير في الهواء ضاحكة تعلو وتهبط .. لحظات قليلة .. ليتها تظل ضاحكة .. وليتها تنزع ذلك الإيشارب الغبي .. طرنا في الهواء وطارت الأحلام .. وطار معها إيشارب جيهان .. ليترك تحته أرض فضاء عطشى لم تعرف يومًا معنى الأخضر .. وفجأة اختفت ضحكة جيهان وتعالت صيحاتنا .. ولم أقوَ على التنفس .. أين شعر جيهان ؟ ماذا فعلوا به ؟


منذ ذلك اليوم لم أرَ جيهان ثانية .. اختفت من الوجود .. وكأنها كانت حلمًا في مخيلتي أنا فقط .. وبعد حين اختفى عم سمير أيضًا .. لم يعد أحد يطيّرنا في الهواء .. وتوقفت المرجيحة عن الدوران .. ثم اختفى الرفاق واحد تلو الآخر .. ثم اختفيتُ .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق